فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)}
قوله تعالى: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ}: يجوز أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ المَلِك، والمفعول ضميرَ يوسفَ عليه السلام وهو الظاهر، ويجوز العكس.
{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ}
قوله تعالى: {لِيُوسُفَ}: يجوز في هذه اللامِ أنْ تكونَ متعلقةً ب {مَكَّنَّا} على أن يكون مفعولُ {مَكَّنَّا} محذوفًا تقديره: مَكَّنَّا لِيوسفَ الأمورَ، أو على أن يكونَ المفعولُ به {حيث} كما سيأتي. ويجوز أن تكونَ زائدةً عند مَنْ يرى ذلك، وقد تقدم أنَّ الجمهورَ يَأْبَوْن ذلك إلا في موضعين.
قوله: {يَتَبَوَّأُ} جملةٌ حاليةٌ من يوسف. و{منها} يجوز أنْ تتعلَّق ب {يَتَبوَّأ}. وأجاز أبو البقاء أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ مِنْ {حيث}.
و{حيث} يجوزُ أن يكونَ ظرفًا ل {يَتَبَوَّأ}، ويجوز أنْ يكونَ مفعولًا به وقد تقدَّم تحقيقُه في الأنعام.
وقرأ ابن كثير {نَشَاء} بالنون على أنها نونُ العظمةِ للَّه تعالى. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ يوسف قال: لأنَّ مشيئته مِنْ مشيئة اللَّه وفيه نظرٌ لأنَّ نَظْم الكلامِ يَأْباه. والباقون بالياء على أنه ضمير يوسف. ولا خلاف في قول: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ} أنها بالنون. وجَوَّز الشيخ أن يكونَ الفاعلُ في قراءة الياء ضميرَ اللَّهِ تعالى، ويكون التفاتًا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)}
لما اتضحت للمِلك طهارةُ فِعْلِه ونزاهةُ حالِه استحضره لاستصفائه لنفسه، فلمَّا كَلَّمَه وسَمِعَ بيانَه رَفَعَ مَحلَّه ومكانه، وضمنه بِرَّه وإحسانَه، فقال: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}.
{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}
إنما سأل ذلك ليضعَ الحقَّ مَوْضِعَه، ليصلَ نصيبُ الفقراءِ إليهم، فَطَلَبَ حقَّ الله تعالى في ذلك، ولم يطلب نصيبًا لنفسه.
ويقال لم يقل إني حَسَنٌ جميلٌ بل قال: {إِنّىِ حَفِيظٌ عَلِيمٌ} أي كاتِبٌ حاسِبٌ، ليُعْلَمَ أَنَّ الفضلَ في المعاني لا في الصورة.
{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)}
لمَّا لم تكن له دواعي الشهوات من نَفْسِه مَكّنَه اللَّهُ من مُلْكِه- قال تعالى: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا} [الشورة: 63]- فقال: {وَلاَ نُضِيعُ أَجرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56].
ثم أخبر عن حقيقة التوحيد، وبيَّن أنه إِنما يوفِّي عبيادَه من ألطافه بفضله لا بفعلهم، وبرحمته لا بِخُدْمِتهم؛ فقال: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ}. ثم يرقى هممهم عما أولاهم من النَّعم.
{وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)}
ليُعْلَمَ أَنَّهُ لابد من التقوى ومخالفة الهوى. اهـ.

.تفسير الآيات (58- 61):

قوله تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان المعنى- كما تقدم: فجعل إليه خزائن الأرض، فجاءت السنون المخصبة، فدبرها بما علمه الله، ثم جاءت السنون المجدبة فأجدبت جميع أرض مصر وما والاها من بلاد الشام وغيرها، فأخرج ما كان ادخره من غلال سبع سنين بالتدريج أولًا فأولًا- كما حد له: {العليم الحكيم} فتسامع به الناس فجاؤوا للامتيار منه من كل أوب: {وجاء إخوة يوسف} العشرة لذلك، وحلف أبوهم بنيامين أخا يوسف عليه السلام لأمه عنده، ودل على تسهيله إذنهم بالفاء فقال: {فدخلوا عليه} أي لأنه كان يباشر الأمور بنفسه كما هو فعل الكفاة الحزمة، لا يثق فيه بغيره: {فعرفهم} لأنه كان مرتقبًا لحضورهم لعلمه بجدب بلادهم وعقد همته بهم.
مع كونه يعرف هيئاتهم في لباسهم وغيره، ولم يتغير عليه كبير من حالهم.
لمفارقته إياهم رجالًا: {وهم له منكرون} ثابت إنكارهم عريق فيهم وصفهم به، لعدم خطوره ببالهم لطول العهد، مع ما تغير عليهم من هيئته بالسن وانضاف إليه من الحشم والخدم واللباس وهيئة البلد وهيبة الملك وعز السلطان، وغير ذلك مما ينكر معه المعروف، ويستوحش لأجله من المألوف، وفق ما قال تعالى: {لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} [يوسف: 15] والدخول: الانتقال إلى محيط، والمعرفة: تبين الشيء بالقلب بما لو شوهد لفرق بينه وبين غيره مما ليس على خاص صفته.
ولما كان المعنى في قوة أن يقال: فطلبوا منه الميرة فباعهم بعد أن استخبرهم عن أمرهم، وقال لهم: لعلكم جواسيس؟ وسألهم عن جميع حالهم.
فأخبروه بأبيهم وأخيهم منه، ليعلم صلاحهم ولا يظن أنهم جواسيس، عطف عليه قوله: {ولما جهزهم} أي يوسف عليه الصلاة والسلام: {بجهازهم} الذي جاؤوا له وقد أحسن إليهم؛ والجهاز: فاخر المتاع الذي يحمل من بلد إلى بلد: {قال} أي لهم: {ائتوني} أيها العصابة: {بأخ لكم} كائن: {من أبيكم} يأتي برسالة من أبيكم الرجل الصالح حتى أصدقكم، أو أنهم طلبوا منه لأخيهم حملًا، فأظهر أنه لم يصدقهم، وطلب إحضاره ليعطيه، فإنه كان يوزع الطعام على قدر الكفاية؛ ثم رغبهم بإطماعهم في مثل ما فعل بهم من الإحسان، وكان قد أحسن نزلهم، فقال مقررًا لهم بما رأوا منه: {ألا ترون} أي تعلمون علمًا هو كالرؤية: {أني أوفي الكيل} أي أتمه دائمًا على ما يوجبه الحق: {وأنا خير المنزلين} أضع الشيء في أولى منازله.
ولما رغبهم، رهبهم فقال: {فإن لم تأتوني به} أي بأخيكم أول قدمة تقدمونها: {فلا كيل لكم} وعرفهم أنه لا يمنعهم من غيره فقال: {عندي ولا تقربون} ومع ذلك فلم يخطر ببالهم أنه يوسف، فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: {قالوا سنراود} أي بوعد لا خلف فيه حين نصل: {عن أباه} أي نكلمه فيه وننازعه الكلام ونحتال عليه فيه، ونتلطف في ذلك، ولا ندع جهدًا؛ ثم أكدوا ذلك- بعد الجملة الفعلية المصدرة بالسين- بالجملة الاسمية المؤكدة بحرفي التأكيد، فقالوا: {وإنا لفاعلون} أي ما أمرتنا به والتزامناه، وقد مضى عند: {وراودته} أن المادة- يائية وواوية بهمز وبغير همز- تدور على الدوران، ومن لوازمه القصد والإقبال والإدبار والرفق والمهلة، وقد مضى بيان غير المهموز، وأما المهموز فمنه درأه، أي دفعه- لأن المدفوع يرد إلى الموضع الذي أتى منه، والمدارأة: المدافعة والمنازعة مطلقًا، أي سواء كانت برفق أو بعنف، ثم كثرت فقصرت على الملاينة، ويلزم من الدفع حلول المدفوع في موضع لا يريده بغتة، ومنه: درأ علينا، أي خرج مفاجأة، قال القزاز: وأصله من قولهم: جاء السيل درأ، أي يدرأ بعضه بعضًا، وهو الذي يأتي من مكان لا يعلم به، واندرأ فلان علينا بالشر- إذا أتى به من حيث لم ندر، والدرء: النشوز، وهو من الدفع، وكوكب دريء: متوقد متلألئ- كان نوره يدفع بعضه بعضًا، ومنه درأت النار: أضاءت، واندرأ الحريق: انتشر، ودرأ الشيء: بسطه- لأن المبسوط لا يخلو عن دفع، وتدارؤوا: تدافعوا في الخصومة.
ودرأ البعير: أغد، ومع الغدة ورم في ظهره، وناقة دارئ: مغدة، وذلك لأن الغدة ملزومة للدفع، لا تنفك عنه بالقتب والركب وغيرهما، وكل ناتئ في الجسد هذا شأنه، ومنه الدرء: لقطعة من الجبل مشرقة، وناقة مدرئ: أنزلت اللبن وأرخت ضرعها عند النتاج- كأنها دفعتهما، وادرأت الصيد- على افتعلت: اتخذت له دريئة، وقد تقدمت الدرية في الواوي، ومنه: ادرأت فلانًا- ذا اعتمدته، والدرء: الميل والعوج- لأنه أهل لأن يدفع ليقوم، وطريق ذو دروء، أي كور وأخاقيق أي شقوق- فكأنها تدفع صاحبها عن القصد، وتدرؤوا عليهم: تطاولوا- لأن ذلك لا يخلو عن مدافعة كالنشوز، ويلزم الدفع القوة، ومنه رجل ذو تدرا، أي منعه وقوة، ورادته بكذا- بتقديم الراء: جعلته قوة له وعمادًا يدافع عنه، والردء: العون والمادة والعدل الثقيل- لأنه يدافع ليعتدل، وردأ الحائط: دعمه، وردأه بحجر: رماه به، لأنه إذا أصابه دفعه، والإبل: أحسن القيام عليها، لأن ذلك لا يكون إلا بمدافعة، وأردأ الستر: أرخاه، بدفعه له من المكان الذي كان به، وأردأ الولد: سكنه وأنسه، فدفع الهم عنه، وأردأ الشيء: أقره- كأنه لسلب الدفع، وكذا أردأه أي أفسده، إما بأنه لم يدافعه بإحسان القيام عليه فأفسده، أو أنه زاد في الدفع حتى فسد، ومن ذلك أردأ- إذا فعل رديئًا، أي فعلا فاسدًا ليس بجيد، وكأن من ذلك الأدرة- بالضم ساكنة وتحرك- وهي عظم الخصيتين في الناس والخيل؛ ومن التدافع: ترأدت الحية: اهتزت في انسيابها ورفعت رأسها، والريح: اضطربت- فكأن بعضها يدفع بعضًا، ومنه رأد الضحى: ارتفاعه، وترأد الضحى: ارتفع، وكذلك الجارية الرأدة والرؤد- بالضم، أي الناعمة، وقال القزاز: السريعة الشباب مع حسن غذاء، وقال ابن دريد: جارية رأدة- غير مهموز: كثيرة المجيء والذهاب، فإذا قلت: جارية رؤدة فهي الناعمة.
فإذا فسرت بالذهاب والمجيء فهو من الدوران الذي هو المدار، وإذا فسرت بالناعمة فهو من الاضطراب اللازم له، وغصن رؤد- بالضم: رطب- من ذلك، قال القزاز: وأحسب الجارية الناعمة إنما سميت رؤدًا من هذا، وترأد: اهتز نعمة، وزيد: قام فأخذته رعدة، والغصن: تفيأ، والعنق: التوى- كله من الدوران وما يلزمه من الاضطراب، ورئد الإنسان: صديقه، لأنه يراوده ويداوره، والرأدة: أصل اللحى، وهو أصول منبت الأسنان، وهو العظم الذي يدور فيه طرفا اللحيين مما يلي الصدغين؛ ومن الرفق والمهلة: الرؤدة- بالضم، وهي التؤدة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}
اعلم أنه لما عم القحط في البلاد، ووصل أيضًا إلى البلدة التي كان يسكنها يعقوب عليه السلام وصعب الزمان عليهم فقال لبنيه إن بمصر رجلًا صالحًا يمير الناس فاذهبوا إليه بدراهمكم وخذوا الطعام فخرجوا إليه وهم عشرة ودخلوا على يوسف عليه السلام وصارت هذه الواقعة كالسبب في اجتماع يوسف عليه السلام مع إخوته وظهور صدق ما أخبر الله تعالى عنه في قوله ليوسف عليه السلام حال ما ألقوه في الجب: {لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15] وأخبر تعالى أن يوسف عرفهم وهم ما عرفوه ألبتة، أما أنه عرفهم فلأنه تعالى كان قد أخبره في قوله: {لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ} بأنهم يصلون إليه ويدخلون عليه، وأيضًا الرؤيا التي رآها كانت دليلًا على أنهم يصلون إليه، فلهذا السبب كان يوسف عليه السلام مترصدًا لذلك الأمر، وكان كل من وصل إلى بابه من البلاد البعيدة يتفحص عنهم ويتعرف أحوالهم ليعرف أن هؤلاء الواصلين هل هم إخوته أم لا فلما وصل إخوة يوسف إلى باب داره تفحص عن أحوالهم تفحصًا ظهر له أنهم إخوته، وأما أنهم ما عرفوه فلوجوه: الأول: أنه عليه السلام أمر حجابه بأن يوقفوهم من البعد وما كان يتكلم معهم إلا بالواسطة ومتى كان الأمر كذلك لا جرم أنهم لم يعرفوه لاسيما مهابة الملك وشدة الحاجة يوجبان كثرة الخوف، وكل ذلك مما يمنع من التأمل التام الذي عنده يحصل العرفان.
والثاني: هو أنهم حين ألقوه في الجب كان صغيرًا.
ثم إنهم رأوه بعد وفور اللحية، وتغير الزي والهيئة فإنهم رأوه جالسًا على سريره، وعليه ثياب الحرير، وفي عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج من ذهب، والقوم أيضًا نسوا واقعة يوسف عليه السلام لطول المدة.
فيقال: إن من وقت ما ألقوه في الجب إلى هذا الوقت كان قد مضى أربعون سنة، وكل واحد من هذه الأسباب يمنع من حصول المعرفة، لاسيما عند اجتماعها، والثالث: أن حصول العرفان والتذكير بخلق الله تعالى، فلعله تعالى ما خلق ذلك العرفان والتذكير في قلوبهم تحقيقًا لما أخبره عنه بقوله: {لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} وكان ذلك من معجزات يوسف عليه السلام.
ثم قال تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} قال الليث: جهزت القوم تجهيزًا إذا تكلفت لهم جهازهم للسفر، وكذلك جهاز العروس والميت وهو ما يحتاج إليه في وجهه.
قال: وسمعت أهل البصرة يقولون: الجهاز بالكسر.
قال الأزهري: القراء كلهم على فتح الجيم، والكسر لغة ليست بجيدة، قال المفسرون: حمل لكل رجل منهم بعيرًا وأكرمهم أيضًا بالنزول وأعطاهم ما احتاجوا إليه في السفر، فذلك قوله: {جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} ثم بين تعالى أنه لما جهزهم بجهازهم قال: {ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ}.
واعلم أنه لابد من كلام سابق حتى يصير ذلك الكلام سببًا لسؤال يوسف عن حال أخيهم، وذكروا فيه وجوهًا:
الوجه الأول: وهو أحسنها إن عادة يوسف عليه السلام مع الكل أن يعطيه حمل بعير لا أزيد عليه ولا أنقص، وإخوة يوسف الذين ذهبوا إليه كانوا عشرة، فأعطاهم عشرة أحمال، فقالوا: إن لنا أبًا شيخًا كبيرًا وأخًا آخر بقي معه، وذكروا أن أباهم لأجل سنه وشدة حزنه لم يحضر، وأن أخاهم بقي في خدمة أبيه ولابد لهما أيضًا من شيء من الطعام فجهز لهما أيضًا بعيرين آخرين من الطعام فلما ذكروا ذلك قال يوسف فهذا يدل على أن أحب أبيكم له أزيد من حبه لكم، وهذا شيء عجيب لأنكم مع جمالكم وعقلكم وأدبكم إذا كانت محبة أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم دل هذا على أن ذلك أعجوبة في العقل، وفي الفضل والأدب فجيئوني به حتى أراه فهذا السبب محتمل مناسب.
والوجه الثاني: أنهم لما دخلوا عليه، عليه السلام وأعطاهم الطعام قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن قوم رعاة من أهل الشام أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال: لعلكم جئتم عيونًا فقالوا معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد شيخ صديق نبي اسمه يعقوب قال: كم أنتم قالوا: كنا اثني عشر فهلك منا واحد وبقي واحد مع الأب يتسلى به عن ذلك الذي هلك، ونحن عشرة وقد جئناك قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخ لكم من أبيكم ليبلغ إلي رسالة أبيكم فعند هذا أقرعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأيا في يوسف فخلفوه عنده.
والوجه الثالث: لعلهم لما ذكروا أباهم قال يوسف: فلم تركتموه وحيدًا فريدًا؟ قالوا: ما تركناه وحيدًا، بل بقي عنده واحد.
فقال لهم: لم استخلصه لنفسه ولم خصه بهذا المعنى لأجل نقص في جسده؟ فقالوا: لا.
بل لأجل أنه يحبه أكثر من محبته لسائر الأولاد فعند هذا قال يوسف لما ذكرتم أن أباكم رجل عالم حكيم بعيد عن المجازفة، ثم إنه خصه بمزيد المحبة وجب أن يكون زائدًا عليكم في الفضل، وصفات الكمال مع أني أراكم فضلاء علماء حكماء فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ فائتوني به، والسبب الثاني: ذكره المفسرون، والأول والثالث محتمل والله أعلم.
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه قال: {أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل} أي أتمه ولا أبخسه، وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم، وأنا خير المنزلين، أي خير المضيفين لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم.
وأقول: هذا الكلام يضعف الوجه الثاني وهو الذي نقلناه عن المفسرين، لأن مدار ذلك الوجه على أنه اتهمهم ونسبهم إلى أنهم جواسيس، ولو شافههم بذلك الكلام فلا يليق به أن يقوم لهم: {أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} وأيضًا يبعد من يوسف عليه السلام مع كونه صديقًا أن يقول لهم أنتم جواسيس وعيون، مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التهمة، لأن البهتان لا يليق بحال الصديق.
ثم قال: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ}.
واعلم أنه عليه السلام لما طلب منهم إحضار ذلك الأخ جمع بين الترغيب والترهيب.
أما الترغيب: فهو قوله: {أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} وأما الترهيب: فهو قوله: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ} وذلك لأنهم كانوا في نهاية الحاجة إلى تحصيل الطعام، وما كان يمكنهم تحصيله إلا من عنده، فإذا منعهم من الحضور عنده كان ذلك نهاية الترهيب والتخويف، ثم إنهم لما سمعوا هذا الكلام من يوسف قالوا: {سنراود عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لفاعلون} أي سنجتهد ونحتال على أن ننزعه من يده، وإنا لفاعلون هذه المراودة، والغرض من التكرير التأكيد، ويحتمل أن يكون: {وَإِنَّا لفاعلون} أن نجيئك به، ويحتمل: {وَإِنَّا لفاعلون} كل ما في وسعنا من هذا الباب. اهـ.